فصل: تفسير الآية رقم (102)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التحرير والتنوير المسمى بـ «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»***


تفسير الآيات رقم ‏[‏79- 80‏]‏

‏{‏قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ ‏(‏79‏)‏ قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آَوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ ‏(‏80‏)‏‏}‏

فصلت جملة ‏{‏قالوا‏}‏ عن التي قبلها لوقوعها موقع المحاورة مع لوط عليه السّلام‏.‏

و ‏{‏لقد علمت‏}‏ تأكيد لكونه يعلم‏.‏ فأكد بتنزيله منزلةَ من ينكر أنه يعلم لأن حالة في عرضه بناته عليهم كحال من لا يعلم خُلقهم، وكذلك التوكيد في ‏{‏وإنك لتعلَم ما نريد‏}‏، وكلا الخبرين مستعمل في لازم فائدة الخبر، أي نحن نعلم أنك قد علمت ما لنا رغبة في بناتك وإنك تعلم مرادنا‏.‏

ومثله قوله حكاية عن قوم إبراهيم ‏{‏لقد علمت ما هؤلاء ينطقون‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 65‏]‏‏.‏

و ‏{‏ما‏}‏ الأولى نافية معلّقة لفعل العلم عن العمل، و‏{‏ما‏}‏ الثانية موصولة‏.‏

والحق‏:‏ ما يحقّ، أي يجب لأحد أو عليه، فيقال‏:‏ له حق في كذا، إذا كان مستحقاً له، ويقال‏:‏ ما له حق في كذا، بمعنى لا يستحقه، فالظاهر أنه أطلق هنا كنايةً عن عدم التعلّق بالشيء وعن التجافي عنه‏.‏ وهو إطلاق لم أر مثله، وقد تحيّر المفسرون في تقريره‏.‏ والمعنى‏:‏ ما لنا في بناتك رغبة‏.‏

وجوابه بِ ‏{‏لَوْ أنّ لي بكم قوة‏}‏ جواب يائس من ارعوائهم‏.‏

و ‏{‏لو‏}‏ مستعملة في التمنّي، وهذا أقصى ما أمكنه في تغيير هذا المنكر‏.‏

والباء في ‏{‏بكم‏}‏ للاستعلاء، أي عليكم‏.‏ يقال‏:‏ ما لي به قوة وما لي به طاقة‏.‏ ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 249‏]‏‏.‏

ويقولون‏:‏ مَا لي بهذا الأمر يَدان، أي قدرة أو حيلة عليه‏.‏

والمعنى‏:‏ ليت لي قوة أدفعكم بها، ويريد بذلك قوة أنصار لأنّه كان غريباً بينهم‏.‏

ومعنى ‏{‏أو آوى إلى ركن شديد‏}‏ أو أعتصم بما فيه مَنعة، أي بمكان أو ذي سلطان يمنعني منكم‏.‏

والركن‏:‏ الشق من الجبل المتّصل بالأرض‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏81‏]‏

‏{‏قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ ‏(‏81‏)‏‏}‏

هذا كلام الملائكة للوط عليه السّلام كاشفوه بأنّهم ملائكة مرسلون من الله تعالى‏.‏ وإذ قد كانوا في صورة البشر وكانوا حاضري المجادلة حكى كلامهم بمثل ما تحكى به المحاورات فجاء قولهم بدون حرف العطف على نحو ما حكي قول‏:‏ لوط عليه السّلام وقول قومه‏.‏ وهذا الكلام الذي كلّموا به لوطاً عليه السّلام وحي أوحاه الله إلى لوط عليه السّلام بواسطة الملائكة، فإنه لمّا بلغ بِلُوط توقعُ أذى ضيفه مبلغَ الجزع ونفاد الحيلة جاءه نصر الله على سنّة الله تعالى مع رسله ‏{‏حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 110‏]‏‏.‏

وابتدأ الملائكة خطابهم لوطاً عليه السّلام بالتعريف بأنفسهم لتعجيل الطمأنينة إلى نفسه لأنّه إذا علم أنهم ملائكة علم أنهم ما نزلوا إلاّ لإظهار الحق‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏ما تنزّل الملائكةُ إلاّ بالحق وما كانوا إذاً منْظرين‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 8‏]‏‏.‏ ثم ألحقوا هذا التعريف بالبشارة بقولهم‏:‏ ‏{‏لن يصلوا إليك‏}‏‏.‏ وجيء بحرف تأكيد النفي للدّلالة على أنهم خاطبوه بما يزيل الشك من نفسه‏.‏ وقد صرف الله الكفّار عن لوط عليه السّلام فرجعوا من حيث أتوا، ولو أزال عن الملائكة التشكّل بالأجساد البشرية فأخفاهم عن عيون الكفّار لحسبوا أنّ لوطاً عليه السّلام أخفاهم فكانوا يؤذون لوطاً عليه السّلام‏.‏ ولذلك قال له الملائكة ‏{‏لن يصلوا إليك‏}‏ ولم يقولوا لن ينالوا، لأنّ ذلك معلوم فإنهم لمّا أعلموا لوطاً عليه السّلام بأنهم ملائكة ما كان يشك في أن الكفّار لا ينالونهم، ولكنّه يخشى سورتهم أن يتّهموه بأنه أخفاهم‏.‏

ووقع في التوراة أن الله أعمى أبصار المراودين لوطاً عليه السّلام عن ضيفه حتى قالوا‏:‏ إنّ ضيف لوط سَحرة فانصرفوا‏.‏ وذلك ظاهر قوله تعالى‏:‏ في سورة ‏[‏القمر‏:‏ 37‏]‏ ‏{‏ولقد رَاودوه عن ضيفه فطمسْنا أعينهم‏.‏‏}‏ وجملة لن يصلوا إليك‏}‏ مبيّنة لإجمال جملة ‏{‏إنّا رسُل ربّك‏}‏، فلذلك فصلت فلم تعطف لأنها بمنزلة عطف البيان‏.‏

وتفريع الأمر بالسُرى على جملة ‏{‏لن يصلوا إليك‏}‏ لما في حرف ‏{‏لَن‏}‏ من ضمان سلامته في المستقبل كلّه‏.‏ فلمّا رأى ابتداء سلامته منهم بانصرافهم حسن أن يبين له وجه سلامته في المستقبل منهم باستئصالهم وبنجاته، فذلك موقع فاء التفريع‏.‏

و ‏(‏أسْر‏)‏ أمر بالسُرى بضم السين والقصر‏.‏ وهو اسم مصدر للسير في الليل إلى الصباح‏.‏ وفعله‏:‏ سَرى يقال بدون همزة في أوّله ويقال‏:‏ أسرى بالهمزة‏.‏

قرأه نافع، وابن كثير، وأبو جعفر بهمزة وصل على أنه أمر من سَرى‏.‏ وقرأه الباقون بهمزة قطع على أنه من أسرى‏.‏

وقد جمعوه في الأمر مع أهله لأنه إذا سرى بهم فقد سرى بنفسه إذ لو بعث أهله وبقي هو لَمَا صحّ أن يقال‏:‏ أسْر بهم للفرق بين أذهبت زيداً وبين ذهبت به‏.‏

والقِطْع بكسر القاف‏:‏ الجزء من الليل‏.‏

وجملة ‏{‏ولا يلتفت منكم أحد‏}‏ معترضة بين المستثنى والمستثنى منه‏.‏ والالتفات المنهي عنه هو الالتفات إلى المكان المأمور بمغادرته كَمَا دَلّت عليه القرينة‏.‏

وسبب النهي عن الالتفات التقصي في تحقيق معنى الهجرة غضباً لحرمات الله بحيث يقطع التعلق بالوطن ولو تعلّق الرؤية‏.‏ وكان تعيين الليل للخروج كَيْلاَ يُلاَقِي ممانعة من قومه أو من زوجه فيشقُّ عليه دفاعهم‏.‏

و ‏{‏إلاّ امرأتَك‏}‏ استثناء من ‏{‏أهلك‏}‏، وهو منصوب في قراءة الجمهور اعتباراً بأنه مستثنى من ‏{‏أهلك‏}‏ وذلك كلام موجب، والمعنى‏:‏ لا تسْر بها، أريد أن لا يعلمها بخروجه لأنها كانت مخلصة لقومها فتخبرهم عن زوجها‏.‏ وقرأه ابن كثير، وأبو عمرو برفع ‏{‏امرأتك‏}‏ على أنه استثناء من ‏{‏أحد‏}‏ الواقع في سياق النهي، وهو في معنى النفي‏.‏ قيل‏:‏ إنّ امرأته خرجت معهم ثم التفتت إلى المدينة فحنّت إلى قومها فرجعت إليهم‏.‏ والمعنى أنه نهاهم عن الالتفات فامتثلوا ولم تمتثل امرأتُه للنهي فالتفتت، وعلى هذا الوجه فالاستثناء من كلام مقدّر دلّ عليه النهي‏.‏ والتقدير‏:‏ فلا يلتفتون إلاّ امرأتك تلتفتُ‏.‏

وجملة ‏{‏إنّه مصيبها ما أصابهم‏}‏ استئناف بياني ناشئ عن الاستثناء من الكلام المقدّر‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏ما أصابهم‏}‏ استعمال فعل المضي في معنى الحال، ومقتضى الظاهر أن يقال‏:‏ ما يصيبهم، فاستعمال فعل المضي لتقريب زمن الماضي من الحال نحو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 6‏]‏ الآية، أو في معنى الاستقبال تنبيهاً على تحقق وقوعه نحو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أتى أمر الله‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 1‏]‏‏.‏

وجملة ‏{‏إنّ موعدهم الصبح‏}‏ مستأنفة ابتدائية قُطعت عن التي قبلها اهتماماً وتهويلاً‏.‏

والموعد‏:‏ وقت الوعد‏.‏ والوعد أعمّ من الوعيد فيطلق على تعيين الشرّ في المستقبل‏.‏ والمراد بالموعد هنا موعد العذاب الذي علمه لوط عليه السّلام إما بوحي سابق، وإما بقرينة الحال، وإما بإخبار من الملائكة في ذلك المقام طَوته الآية هنا إيجازاً، وبهذه الاعتبارات صحّ تعريف الوعد بالإضافة إلى ضميرهم‏.‏

وجملة ‏{‏أليس الصبح بقريب‏}‏ استئناف بيانيّ صدر من الملائكة جواباً عن سؤال بجيش في نفسه من استبطاء نزول العذاب‏.‏

والاستفهام تقريريّ، ولذلك يقع في مثله التقرير على النفي إرخاء للعنان مع المخاطب المقرّر ليعرف خطأه‏.‏ وإنّما قالوا ذلك في أوّل الليل‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏82- 83‏]‏

‏{‏فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ ‏(‏82‏)‏ مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ ‏(‏83‏)‏‏}‏

تقدّم الكلام على نظير ‏{‏فلما جاء أمرنا‏}‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏جعَلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليها حجارة من سجيل‏}‏ تعود الضّمائر الثلاثة المجرورة بالإضافة وبحرف ‏(‏على‏)‏ على القرية المفهومة من السياق‏.‏

والمعنى أن القرية انقلبت عليهم انقلاب خسففٍ حتى صار عالي البيوت سافلاً، أي وسافلها عالياً، وذلك من انقلاب الأرض بهم‏.‏

وإنما اقتصر على ذكر جعل العالي سافلاً لأنه أدخل في الإهانة‏.‏

والسجّيل‏:‏ فُسّر بواد نارٍ في جهنّم يقال‏:‏ سجّيل باللاّم، وسجّين بالنون‏.‏ و‏{‏من‏}‏ تبعيضية، وهو تشبيه بليغ، أي بحجارة كأنّها من سجيل جهنم، كقول كعب بن زهير‏:‏

وجلدها مِن أطوم البيت

وقد جاء في التّوراة‏:‏ أن الله أرسل عليهم كبريتاً وناراً من السماء‏.‏ ولعلّ الخسف فجّر من الأرض براكين قذفت عليهم حجارة معادن محرقة كالكبريت، أو لعلّ بركاناً كان قريباً من مدنهم انفجر باضطرابات أرضية ثم زال من ذلك المكان بحوادث تعاقبت في القرون، أو طَمى عليه البحر وبقيَ أثر البحر عليها حتّى الآن، وهو المسمّى بُحيرة لوط أو البحرَ الميت‏.‏

وقيل‏:‏ سجّيل معرب ‏(‏سنك جيل‏)‏ عن الفارسية أي حجر مخلوط بطين‏.‏

والمنضود‏:‏ الموضوع بعضه على بعض‏.‏ والمعنى هنا أنها متتابعة متتالية في النزول ليس بينها فترة‏.‏ والمراد وصف الحجارة بذلك إلا أن الحجارة لمّا جعلت من سجّيل، أجري الوصف على سجّيل وهو يفضي إلى وصف الحجارة لأنّها منه‏.‏

والمسوّمَة‏:‏ التي لها سِيما، وهي العلامة‏.‏ والعلامات توضع لأغراض، منها عدم الاشتباه، ومنها سهولة الإحضار، وهو هنا مكنّى به عن المُعدّة المهيّئة لأن الإعداد من لوازم التوسيم بقرينة قوله‏:‏ ‏{‏عند ربك‏}‏ لأن تسويمها عند الله هو تقديره إياها لهم‏.‏

وضمير ‏{‏وما هي‏}‏ يصلح لأن يعود إلى ما عادت إليه الضمائر المجرورة قبله وهي المدينة، فيكون المعنى وما تلك القرية ببعيد من المشركين، أي العرب، فمن شاء فليذهب إليها فينظر مصيرها، فالمراد البعد المكانيّ‏.‏ ويصلح لأن يعود إلى الحجارة، أي وما تلك الحجارة ببعيد، أي أنّ الله قادر على أن يرمي المشركين بمثلها‏.‏ والبعد بمعنى تعذّر الحصول ونفيه بإمكان حصوله‏.‏ وهذا من الكلام الموجّه مع صحة المعنيين وهو بعيد‏.‏

وجرّد ‏{‏بعيد‏}‏ عن تاء التأنيث مع كونه خبراً عن الحجارة وهي مؤنث لفظاً، ومع كون ‏{‏بعيد‏}‏ هنا بمعنى فاعل لا بمعنى مفعول، فالشأن أن يطابق موصوفه في تأنيثه، ولكن العرب قد يجرون فعيلاً الذي بمعنى فاعل مجرى الذي بمعنى مفعول إذا جرى على مؤنث غير حقيقي التأنيث زيادة في التخفيف، كقوله تعالى في سورة الأعراف ‏(‏56‏)‏ ‏{‏إنّ رحمت الله قريبٌ من المحسنين‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وما يدريك لعلّ الساعة تكون قريباً‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 63‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏قال مَن يُحيي العظام وهي رميم‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 78‏]‏‏.‏ وقيل‏:‏ إن قوله‏:‏ ‏{‏وما كانت أمك بغيا‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 28‏]‏ من هذا القبيل، أي باغية‏.‏ وقيل‏:‏ أصله فعول بغوي فوقع إبدال وإدغام‏.‏ وتأوّل الزمخشري ما هنا على أنه صفة لمحذوف، أي بمكان بعيد، أو بشيء بعيد عن الاحتمالين في معاد ضمير ‏{‏هي‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏84- 86‏]‏

‏{‏وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ ‏(‏84‏)‏ وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ‏(‏85‏)‏ بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ ‏(‏86‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏وإلى مدين أخاهم شعيباً إلى قوله من إله غيره‏}‏ نظير قوله‏:‏ ‏{‏وإلى ثمود أخاهم صالحاً‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 61‏]‏ الخ‏.‏

أمرهم بثلاثة أمور‏:‏

أحدها‏:‏ إصلاح الاعتقاد، وهو من إصلاح العقول والفكر‏.‏

وثالثها‏:‏ صلاح الأعمال والتصرفات في العالم بأن لا يفسدوا في الأرض‏.‏

ووسط بينهما الثاني‏:‏ وهو شيء من صلاح العمل خص بالنهي لأنّ إقدامهم عليه كان فاشياً فيهم حتّى نسوا ما فيه من قبح وفساد، وهذا هو الكف عن نقص المكيال والميزان‏.‏

فابتدأ بالأمر بالتوحيد لأنه أصل الصلاح ثم أعقبه بالنهي عن مظلمة كانت متفشية فيهم، وهي خيانة المكيال والميزان‏.‏ وقد تقدّم ذلك في سورة الأعراف‏.‏ وهي مفسدة عظيمة لأنها تجمع خصلتي السرقة والغدْر، لأن المكتال مسترسل مستسلم‏.‏ ونهاهم عن الإفساد في الأرض وعن نقص المكيَال والميزان فعزّزه بالأمر بضده وهو إيفاؤهما‏.‏

وجملة ‏{‏إني أراكم بخير‏}‏ تعليل للنهي عن نقص المكيال والميزان‏.‏ والمقصود من ‏{‏إني أراكم بخير‏}‏ أنكم بخير‏.‏ وإنما ذكر رؤيته ذلك لأنها في معنى الشهادة عليهم بنعمة الله عليهم فحقّ عليهم شكرها‏.‏ والباء في ‏{‏بخير‏}‏ للملابسة‏.‏

والخير‏:‏ حسن الحالة‏.‏ ويطلق على المال كقوله‏:‏ ‏{‏إن ترك خيراً‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 180‏]‏‏.‏ والأوْلى حمله عليه هنا ليكون أدخل في تعليل النهي، أي أنكم في غنى عن هذا التطفيف بما أوتيتم من النعمة والثروة‏.‏ وهذا التعليل يقتضي قبْح ما يرتكبونه من التطفيف في نظر أهل المروءة ويقطع منهم العذر في ارتكابه‏.‏ وهذا حثّ على وسيلة بقاء النعمة‏.‏

ثم ارتقى في تعليل النهي بأنه يخاف عليهم عذاباً يحل بهم إمّا يوم القيامة وإما في الدنيا‏.‏ ولصلوحيته للأمرين أجمله بقوله‏:‏ ‏{‏عذاب يوم محيط‏}‏‏.‏ وهذا تحذير من عواقب كفران النعمة وعصيان وَاهِبِهَا‏.‏

و ‏{‏محيط‏}‏ وصف ل ‏{‏يوم‏}‏ على وجه المجاز العقلي، أي محيط عذابه، والقرينة هي إضافة العذاب إليه‏.‏

وإعادة النداء في جملة ‏{‏ويا قوم أوفوا المكيال‏}‏ لزيادة الاهتمام بالجملة والتنبيه لمضمونها، وهو الأمر بإيفاء المكيال والميزان‏.‏ وهذا الأمر تأكيد للنّهي عن نقصهما‏.‏ والشيء يؤكد بنفي ضده، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأضل فرعون قومه وما هدى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 79‏]‏‏.‏ لزيادة التّرغيب في الإيفاء بطلب حصوله بعدالنهي عن ضده‏.‏

والباء في قوله ‏{‏بالقسط‏}‏ للملابسة‏.‏ وهو متعلق ب ‏{‏أوفوا‏}‏ فيفيد أن الإيفاء يلابسه القسط، أي العدل تعليلاً للأمر به، لأنّ العدل معروف حسن، وتنبيهاً على أنّ ضده ظلم وجور وهو قبيح منكر‏.‏

والقسط تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قائماً بالقسط‏}‏ في ‏[‏آل عمران‏:‏ 18‏]‏‏.‏

والبخس‏:‏ النقص‏.‏ وتقدم في قصته في سورة الأعراف مفسراً‏.‏ وذكر ذلك بعد النهي عن نقص المكيال والميزان تذييل بالتعميم بعد تخصيص‏.‏ لأنّ التطفيف من بخس الناس في أشيائهم، وتعدية تبخسوا‏}‏ إلى مفعولين باعتباره ضد أعطى فهو من باب كسا‏.‏

والعَثْيُ بالياء من باب سعَى ورمى ورضي، وبالواو كدعا، هو‏:‏ الفساد‏.‏

ولذلك فقوله ‏{‏مفسدين‏}‏ حال مؤكدة لعاملها مثل التوكيد اللفظي مبالغة في النهي عن الفساد‏.‏

والمراد‏:‏ النهي عن الفساد كله، كما يدلّ عليه قوله‏:‏ ‏{‏في الأرض‏}‏ المقصود منه تعميم أماكن الفساد‏.‏

والفساد تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض‏}‏ في أول سورة ‏[‏البقرة‏:‏ 11‏]‏‏.‏

وقد حصل النهي عن الأعم بعد النهي عن العامّ، وبه حصلت خمسة مؤكدات‏:‏ بالأمر بعد النهي عن الفساد الخاص، ثم بالتّعميم بعد التخصيص، ثم بزيادة التعميم، ثم بتأكيد التعميم الأعم بتعميم المكان، ثمّ بتأكيده بالمؤكد اللفظي‏.‏

وسلك في نهيهم عن الفساد مسلك التدرج فابتدأه بنهيهم عن نوح من الفساد فاششٍ فيهم وهو التطفيف‏.‏ ثم ارتقى فنهاهم عن جنس ذلك النوع وهو أكل أموال الناس‏.‏ ثم ارتقى فنهاهم عن الجنس الأعلى للفساد الشامل لجميع أنواع المفاسد وهو الإفساد في الأرض كلّه‏.‏ وهذا من أساليب الحكمة في تهيئة النفوس بقبول الإرشاد والكمال‏.‏

وإذ قد كانت غاية المفسد من الإفساد اجتلابَ ما فيه نفع عاجل له من نوال ما يحبه أعقب شعيب موعظته بما ادّخره الله من الثواب على امتثال أمره وهو النفع الباقي هو خير لهم مما يقترفونه من المتاع العاجل‏.‏

ولفظ ‏{‏بقيت‏}‏ كلمة جامعة لمعان في كلام العرب، منها‏:‏ الدوام، ومؤذنة بضده وهو الزوال، فأفادت أن ما يقترفونه متاع زائل، وما يدعوهم إليه حظ باق غير زائل، وبقاؤه دنيوي وأخروي‏.‏

فأمّا كونه دنيوياً فلأن الكسب الحلال ناشئ عن استحقاق شرعي فطري، فهو حاصل من تراض بين الأمة فلا يحنق المأخوذ منه على آخذه فيعاديه ويتربص به الدوائر فَبتَجَنب ذلك تبقى الأمّة في أمن من توثّب بعضها على بعض، ومن أجل ذلك قَرَنَ الأموال بالدماء في خطبة حجة الوداع إذ قال النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام ‏"‏ فكما أن إهراق الدماء بدون حق يفضي إلى التقاتل والتفاني بين الأمة فكذلك انتزاع الأموال بدون وجهها يفضي إلى التواثب والتثاور فتكون معرّضة للابتزاز والزوال‏.‏ وأيضاً فلأنّ نوالَها بدون رضى الله عن وسائل أخذها كفران لله يعرّض إلى تسليط عقابه بسلبها من أصحابها‏.‏ قال ابن عطاء الله‏:‏ «من لم يشكر النعَم فقد تعرض لزوالها ومن شكرها فقد قيّدها بعقالها»‏.‏

وأمّا كونه أخرويا فَلأنّ نهيَ الله عنها مقارنٌ للوعد بالجزاء على تركها، وذلك الجزاء من النعيم الخالد كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والباقيات الصالحات خيرٌ عند ربك ثواباً وخيرٌ مردّاً‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 76‏]‏‏.‏

على أنّ لفظ ‏(‏البقية‏)‏ يحتمل معنى آخر من الفضل في كلام العرب، وهو معنى الخير والبركة لأنّه لا يبقى إلاّ ما يحتفظ به أصحابه وهو النفائس، ولذلك أطلقت ‏(‏البقية‏)‏ على الشيء النفيس المبارك كما في قوله تعالى‏:‏

‏{‏فيه سكينةٌ من ربكم وبقيةٌ ممّا ترك آل موسى وآل هارون‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 248‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏فلولا كان من القرون من قبلكم أولوا بقية ينهون عن الفساد في الأرض‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 116‏]‏ وقال عمرو بن معد يكرب أو رويشد الطائي‏:‏

إن تذنبوا ثم تأتيني بَقيتكم *** فما عَليّ بِذَنْب مِنكمُ فَوْت

قال المرزوقي‏:‏ المعنى ثم يأتيني خِياركم وأماثلكم يقيمون المعذرة وهذا كما يقال‏:‏ فلان من بقية أهل، أي من أفاضلهم‏.‏

وفي كلمة ‏(‏البقية‏)‏ معنى آخر وهو الإبقاء عليهم، والعرب يقولون عند طلب الكفّ عن القتال‏:‏ ابقوا علينا، ويَقولون «البقيةَ البقيةَ» بالنصب على الإغراء، قال الأعشى‏:‏

قالوا البقيةَ والهنديُّ يحصدهم *** ولا بقيةَ إلا الثار وانكشفوا

وقال مسور بن زيادة الحارثي‏:‏

أُذَكّرُ بالبُقْيَا على مَنْ أصابني *** وَبُقْيَايَ أنّي جاهد غير مؤتلي

والمعنى إبقاء الله عليكم ونجاتكم من عذاب الاستئصال خير لكم من هذه الأعراض العاجلة السيّئة العاقبة، فيكون تعريضاً بوعيد الاستئصال‏.‏ وكل هذه المعاني صالحة هنا‏.‏ ولعلّ كلام شعيب عليه السّلام قد اشتمل على جميعها فحكاه القرآن بهذه الكلمة الجامعة‏.‏

وإضافة ‏(‏بقية‏)‏ إلى اسم الجلالة على المعاني كلها جمعا وتفريقاً إضافةُ تشريف وتيمّن‏.‏ وهي إضافة على معنى اللاّم لأن البقية من فضله أو ممّا أمر به‏.‏

ومعنى ‏{‏إن كنتم مؤمنين‏}‏ إن كنتم مصدقين بما أرسلت به إليكم، لأنهم لا يتركون مفاسدهم ويرتكبون ما أمروا به إلاّ إذا صَدقوا بأن ذلك من عند الله، فهنالك تكون بقية الله خيراً لهم، فموقع الشرط هو كون البقية خيراً لهم، أي لا تكون البقية خيراً إلاّ للمؤمنين‏.‏

وجاء باسم الفاعل الذي هو حقيقة في الاتّصاف بالفعل في زمان الحال تقريباً لإيمانهم بإظهار الحرص على حصوله في الحال واستعجالاً بإيمانهم لئَلاّ يفجأهم العذاب فيفوت التدارك‏.‏

وجملة ‏{‏وما أنا عليكم بحفيظ‏}‏ في موضع الحال من ضمير ‏{‏اعبُدوا‏}‏ ونظائره، أي افعلوا ذلك باختياركم لأنه لصلاحكم ولست مكرهكم على فعله‏.‏

والحفيظ‏:‏ المجبر، كقوله‏:‏ ‏{‏فإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظاً إن عليك إلاّ البلاغ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 48‏]‏ وتقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما جعلناك عليهم حفيظاً‏}‏ في سورة ‏[‏الأنعام‏:‏ 107‏]‏‏.‏ والمقصود من ذلك استنزال طائرهم لئلا يشمئزّوا من الأمر‏.‏ وهذا استقصاء في الترغيب وحسن الجدال‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏87‏]‏

‏{‏قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ ‏(‏87‏)‏‏}‏

كانت الصلاة من عماد الأديان كلّها‏.‏ وكان المكذبون الملحدون قد تمالؤوا في كل أمة على إنكارها والاستهزاء بفاعلها ‏{‏أتواصوا به بل هم قومٌ طاغون‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 53‏]‏، فلما كانت الصلاة أخص أعماله المخالفة لمعتادهم جعلوها المشيرة عليه بما بلّغه إليهم من أمور مخالفة لمعتادهم بناء على التناسب بين السبب والمسبب في مخالفة المعتاد قصداً للتهكم به والسخرية عليه تكذيباً له فيما جاءهم به، فإسناد الأمر إلى الصلوات غير حقيقي إذ قد علِم كل العقلاء أن الأفعال لا تأمر‏.‏ والمعنى أنّ صلاته تأمره بأنهم يتركون، أي تأمره بأن يحملهم على ترك ما يعبد آباؤهم‏.‏ إذ معنى كونه مأموراً بعمل غيره أنه مأمور بالسعي في ذلك بأن يأمرهم بأشياء‏.‏

و ‏{‏ما‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏ما يعبد آباؤنا‏}‏ موصولة صادقة على المعبودات‏.‏ ومعنى تركها ترك عبادتها كما يؤذن به فعل ‏{‏يعبد‏}‏‏.‏ ويجوز أن تكون ‏{‏ما‏}‏ مصدرية بتقدير‏:‏ أن نترك مثل عبادة آبائنا‏.‏

وقرأ الجمهور «أصلواتك» بصيغة جمع صلاة‏.‏ وقرأه حمزة، والكسائي، وحفص، وخلف «أصلاتك» بصيغة المفرد‏.‏

و ‏{‏أوْ‏}‏ من قوله‏:‏ ‏{‏أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء‏}‏ لتقسيم ما يأمرهم به لأن منهم من لا يتّجر فلا يطفف في الكيل والميزان فهو قسم آخر متميّز عن بقية الأمة بأنه مأمور بترك التطفيف‏.‏ فقوله‏:‏ ‏{‏أن نفعل‏}‏ عطف على ‏{‏ما يعبد آباؤنا‏}‏، أي أن نترك فِعْلَ ما نشاء في أموالنا فنكون طوع أمرك نفعل ما تأمرنا بفعله ونترك ما تأمرنا بتركه‏.‏

وبهذا تعلم أن لا داعي إلى جعل ‏{‏أو‏}‏ بمعنى واو الجمع، كما درج عليه كثير من المفسرين مثل البيضاوي والكواشي وجعلوه عطفاً على ‏{‏نترك‏}‏ فتوجّسوا عدم استقامة المعنى كما قال الطبري‏.‏ وتأوله بوجهين‏:‏ أحدهما عن أهل البصرة والآخر عن أهل الكوفة، أحدهما مبني على تقدير محذوف والآخر على تأويل فعل ‏{‏تَأمرك‏}‏ وكلاهما تكلف‏.‏ وأما الأكثر فصاروا إلى صرف ‏{‏أو‏}‏ عن متعارف معناها وقد كانوا في سعة عن ذلك‏.‏ وسكت عنه كثير مثل صاحب «الكشاف»‏.‏ وأومأ البغوي والنسفي إلى ما صرحنا به‏.‏

وجملة ‏{‏إنك لأنت الحليم الرشيد‏}‏ استئناف تهكم آخر‏.‏ وقد جاءت الجملة مؤكدة بحرف ‏(‏إنّ‏)‏ ولام القسم، وبصيغة القصر في جملة ‏{‏لأنت الحليم الرشيد‏}‏ فاشتملت على أربعة مؤكدات‏.‏

والحليم، زيادة في التهكم‏:‏ ذو الحلم أي العقل، والرشيد‏:‏ الحسن التدبير في المال‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏88‏]‏

‏{‏قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ‏(‏88‏)‏‏}‏

تقدّم نظير الآية في قصة نوح وقصة صالح عليهما السّلام‏.‏

والمراد بالرزق الحسن هنا مثل المراد من الرحمة في كلام نوح وكلام صالح عليهما السلام وهو نعمة النبوءة، وإنّما عبّر شعيب عليه السّلام عن النبوءة بالرزق على وجه التشبيه مشاكلة لقولهم‏:‏ ‏{‏أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 87‏]‏ لأنّ الأموال أرزاق‏.‏ وجواب الشرط محذوف يدل عليه سياق الكلام، أو يدل عليه ‏{‏إن كنتُ على بينة من ربي‏}‏‏.‏ والتقدير‏:‏ مَاذا يسعكم في تكذيبي، أو ماذا ينجيكم من عاقبة تكذيبي، وهو تحذير لهم على فرض احتمال أن يكون صادقاً، أي فالحزم أن تأخذوا بهذا الاحتمال، أو فالحزم أن تنظروا في كنه ما نهيتكم عنه لتعلموا أنّه لصلاحكم‏.‏

ومعنى ‏{‏وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه‏}‏ عند جميع المفسّرين من التّابعين فمَن بعدهم‏:‏ ما أريد ممّا نهيتكم عنه أن أمنعكم أفعالاً وأنا أفعلها، أي لم أكن لأنْهاكم عنْ شيء وأنا أفعله‏.‏ وبيّن في «الكشاف» إفادة التركيب هذا المعنى بقوله «يقال‏:‏ خالفني فلان إلى كذا إذا قصده وأنت مُوَلّ عنه‏.‏‏.‏‏.‏ ويلقاك الرجلُ صادراً عن الماء فتسأله عن صاحبه فيقول‏:‏ خالفني إلى الماء، يريد أنه قد ذهب إليه وارداً وأنا ذاهب عنه صادراً» اه‏.‏

وبيانه أن المخالفة تدل على الاتصاف بضد حاله، فإذا ذُكرت في غرض دلّت على الاتصاف بضده، ثم يبيّن وجه المخالفة بذكر اسم الشيء الذي حصل به الخلاف مدخولاً لحرف ‏{‏إلى‏}‏ الدّال على الانتهاء إلى شيء كما في قولهم‏:‏ خالفني إلى الماء لتضمين ‏{‏أخالفكم‏}‏ معنى السعي إلى شيء‏.‏ ويتعلق ‏{‏إلى ما أنهاكم‏}‏ بفعل ‏{‏أخالفكم‏}‏، ويكون ‏{‏أن أخالفكم‏}‏ مفعول ‏{‏أريد‏}‏‏.‏

فقوله‏:‏ ‏{‏أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه‏}‏ أي أن أفعل خلاف الأفعال التي نهيتكم عنها بأن أصرفكم عنها وأنا أصير إليها‏.‏ والمقصود‏:‏ بيان أنه مأمور بذلك أمراً يعمّ الأمة وإياه وذلك شأن الشرائع، كما قال علماؤنا‏:‏ إنّ خطاب الأمة يشمل الرسول عليه الصلاة والسّلام ما لم يدل دليل على تخصيصه بخلاف ذلك، ففي هذا إظهار أنّ ما نهاهم عنه ينهى أيضاً نفسه عنه‏.‏ وفي هذا تنبيه لهم على مَا فِي النهي من المصلحة، وعلى أن شأنه ليس شأن الجبابرة الذين ينهون عن أعمال وهم يأتونها، لأن مثل ذلك يُنْبِئ بعدم النصح فيما يأمرون وينهون، إذ لو كانوا يريدون النصح والخير في ذلك لاختاروه لأنفسهم وإلى هذا المعنى يرمي التوبيخ في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أتأمرون الناس بالبرّ وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 44‏]‏ أي وأنتم تتلون كتاب الشريعة العامة لكم أفلا تعقلون فتعلموا أنكم أولَى بجلب الخير لأنفسكم‏.‏

والذي يظهر لي في معنى الآية أن المراد من المخالفة المعاكسة والمنازعة؛ إما لأنه عرف من ملامح تكذيبهم أنهم توهّموه ساعياً إلى التملك عليهم والتجبر، وإما لأنّه أراد أن يقلع من نفوسهم خواطر الشر قبل أن تهجس فيها‏.‏

وهذا المحمل في الآية يسمح به استعمال التركيب ومقاصد الرسل وهو أشمل للمعاني من تفسير المتقدّمين، فلا ينبغي قصر تفسير الآية على ما قالوه لأنّه لا يقابل قول قومه ‏{‏أصلواتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 87‏]‏، فإنهم ظنوا به أنه مَا قَصَدَ إلاّ مخالفتهم وتخطئتهم ونفوا أن يكون له قصد صالح فيما دعاهم إليه، فكان مقتضى إبطال ظِنّتِهم أن يَنفي أن يريد مجرد مخالفتهم، بدليل قوله عقبه ‏{‏إن أريد إلاّ الإصلاح مَا استطعت‏}‏‏.‏

فمعنى قوله‏:‏ ‏{‏وما أريد أن أخالفكم‏}‏ أنّه ما يريد مجرّد المخالفة كشأن المنتقدين المتقعرين ولكن يخالفهم لمقصد سام وهو إرادة إصلاحهم‏.‏ ومن هذا الاستعمال ما ورد في الحديث لمّا جاء وفد فزارة إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال أبو بكر الصديق‏:‏ «أمّرْ الأقرع بن حابس، وقال عمر‏:‏ أمّرْ فلاناً، فقال أبو بكر لعُمر‏:‏ ما أردتَ إلى خلافي، فقال عمر‏:‏ ما أردتُ إلى خلافك»‏.‏ فهذا التفسير له وجه وجيه في هذه الآية‏.‏ وفي هذا ما يدلّ على أن المنتقدين قسمان قسم ينتقد الشيء ويقف عند حد النقد دون ارتقاء إلى بيان ما يصلح المنقود‏.‏ وقسم ينتقد ليبيّن وجه الخطأ ثم يعقبه ببيان ما يصلح خطأه‏.‏ وعلى هذا الوجه يتعلّق ‏{‏إلى ما أنهاكم‏}‏ بفعل ‏{‏أريد‏}‏ وكذلك ‏{‏أن أخالفكم‏}‏ يتعلق ب ‏{‏أريد‏}‏ على حذف حرف لام الجر‏.‏ والتقدير‏:‏ ما أريد إلى النهي لأجل أن أخالفكم، أي لمحبة خلافكم‏.‏

وجملة ‏{‏إن أريد إلاّ الإصلاح مَا استعطعت‏}‏ بيان لجملة ‏{‏ما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه‏}‏ لأنّ انتفاء إرادة المخالفة إلى ما نهاهم عنه مجمل فيما يريد إثباته من أضداد المنفي فبيّنهُ بأنّ الضد المراد إثباته هو الإصلاح في جميع أوقات استطاعته بتحصيل الإصلاح، فالقصر قصر قلب‏.‏

وأفادت صيغة القصر تأكيد ذلك لأن القصر قد كان يحصل بمجرد الاقتصار على النفي والإثبات نحو أن يقول‏:‏ ما أريد أن أخالفكم أريد الإصلاح، كقول عبد الملك بن عبد الرحيم الحارثي أو السموءل‏:‏

تسيل على حد الظبات نفوسنا *** وليست على غير الظبات تسيل

ولما بيّن لهم حقيقة عمله وكان في بيانه ما يجر الثناء على نفسه أعقبه بإرجاع الفضل في ذلك إلى الله فقال‏:‏ ‏{‏وما توفيقي إلاّ بالله‏}‏ فسمّى إرادته الإصلاح توفيقاً وجعله من الله لا يحصل في وقت إلاّ بالله، أي بإرادته وهديه، فجملة ‏{‏وما توفيقي إلاّ بالله‏}‏ في موضع الحال من ضمير ‏{‏أريد‏}‏‏.‏

والتوفيق‏:‏ جعل الشيء وفقاً لآخر، أي طبقاً له، ولذلك عرفوه بأنه خلقُ القدرة والدّاعية إلى الطاعة‏.‏

وجملة ‏{‏عليه توكّلت‏}‏ في موضع الحال من اسم الجلالة، أو من ياء المتكلم في قوله‏:‏ ‏{‏توفيقي‏}‏ لأنّ المضاف هنا كالجزء من المضاف إليه فيسوغ مجيء الحال من المضاف إليه‏.‏

والتوكّل مضى عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإذا عزمت فتوكّل على الله‏}‏ في سورة ‏[‏آل عمران‏:‏ 159‏]‏‏.‏

والإنابة تقدمت آنفاً في قوله‏:‏ ‏{‏إنّ إبراهيم لحليمٌ أوّاهٌ منيبٌ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 75‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏89- 90‏]‏

‏{‏وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ ‏(‏89‏)‏ وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ ‏(‏90‏)‏‏}‏

تقدم الكلام على النكتة في إعادة النداء في الكلام الواحد لمخاطب متّحد قريباً‏.‏

وتقدم الكلام على ‏{‏لا يجرمنكم‏}‏ عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدّوكم عن المسجد الحرام أن تَعتدوا‏}‏ في أول ‏[‏العقود‏:‏ 2‏]‏، أي لا يكسبنكم‏.‏

والشقاق‏:‏ مصدر شاقّه إذا عاداه‏.‏ وقد مضت عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله‏}‏ في أول ‏[‏الأنفال‏:‏ 13‏]‏‏.‏

والمعنى‏:‏ لا تجر إليكم عداوتكم إياي إصابتَكم بمثل ما أصاب قوم نوح إلى آخره، فالكلام في ظاهره أنه ينهى الشقاق أن يجر إليهم ذلك‏.‏ والمقصود نهيهم عن أن يجعلوا الشّقاق سبباً للإعراض عن النظر في دعوته، فيوقعوا أنفسهم في أن يصيبهم عذاب مثل ما أصاب الأمم قبلهم فيحسبوا أنهم يمكرون به بإعراضهم وما يمكرون إلاّ بأنفسهم‏.‏

ولقد كان فضْح سوء نواياهم الدّاعية لهم إلى الإعراض عن دعوته عقب إظهار حسن نيّته ممّا دعاهم إليه بقوله‏:‏ ‏{‏وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلاّ الإصلاح ما استطعت‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 88‏]‏ مصادفاً مَحزّ جَوْدة الخطابة إذ رماهم بأنّهم يعملون بضدّ ما يعاملهم به‏.‏

وجملة ‏{‏وما قوم لوط منكم ببعيد‏}‏ في موضع الحال من ضمير النّصب في قوله‏:‏ ‏{‏أن يصيبكم‏}‏ والواو رابطة الجملة‏.‏ ولمعنى الحال هنا مزيد مناسبة لمضمون جملتها إذ اعتبر قرب زمانهم بالمخاطبين كأنّه حالة من أحوال المخاطبين‏.‏

والمراد بالبُعد بُعد الزمن والمكان والنسب، فزمن لوط عليه السّلام غير بعيد في زمن شعيب عليه السّلام، والدّيار قريبة من ديارهم، إذ منازل مدين عند عقبة أيلة مجاورة معان ممّا يلي الحجاز، وديار قوم لوط بناحية الأردن إلى البحر الميت وكان مدين بن إبراهيم عليهما السّلام وهو جد القبيلة المسماة باسمه، متزوجاً بابنة لوط‏.‏

وجملة ‏{‏واستغفروا ربكم‏}‏ عطف على جملة ‏{‏لا يجرمنّكم شقاقي‏}‏‏.‏

وجملة ‏{‏إن ربي رحيم ودود‏}‏ تعليل الأمر باستغفاره والتوبة إليه، وهو تعليل لما يقتضيه الأمر من رجاء العفو عنهم إذا استغفروا وتابوا‏.‏

وتفنن في إضافة الرب إلى ضمير نفسه مرة وإلى ضمير قومه أخرى لتذكيرهم بأنّه ربّهم كيلا يستمروا على الإعراض وللتشرف بانتسابه إلى مخلوقيته‏.‏

والرّحيم تقدّم‏.‏

والودود‏:‏ مثال مُبالغة من الودّ وهو المحبّة‏.‏ وقد تقدّم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ودّوا لو تكفرون كما كفروا‏}‏ في سورة ‏[‏النساء‏:‏ 89‏]‏‏.‏ والمعنى‏:‏ أنّ الله شديد المحبة لمن يتقرّب إليه بالتّوبة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏91‏]‏

‏{‏قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ ‏(‏91‏)‏‏}‏

والفقه‏:‏ الفهم‏.‏ وتقدّم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثاً‏}‏ في سورة ‏[‏النّساء‏:‏ 78‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏انظر كيف نصرّف الآيات لعلّهم يفقهون‏}‏ في سورة ‏[‏الأنعام‏:‏ 65‏]‏‏.‏

ومرادهم من هذا يحتمل أن يكون قصد المباهتة كما حكى الله عن المشركين ‏{‏وقالوا قلوبنا في أكنةٍ ممّا تدعونا إليه وفي آذاننا وقْرٌ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 5‏]‏ وقوله عن اليهود‏:‏ ‏{‏وقالوا قلوبنا غلفٌ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 88‏]‏‏.‏ ويجوز أن يكون المراد ما نتعقّله لأنه عندهم كالمحال لمخالفته ما يألفون، كما حكى الله عن غيرهم بقوله‏:‏ ‏{‏أجعل الآلهة إلهاً واحداً إنّ هذا لشيءٌ عجابٌ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 5‏]‏، وليس المراد عدم فهم كلامه لأنّ شعيباً عليه السّلام كان مقوالاً فصيحاً، ووصفه النبي صلى الله عليه وسلم بأنه خطيب الأنبياء‏.‏

فالمعنى‏:‏ أنك تقول مَا لاَ نصدق به‏.‏ وهذا مقدمة لإدانته واستحقاقه الذم والعقاب عندهم في قولهم‏:‏ ‏{‏ولولا رهطك لرجمناك‏}‏، ولذلك عطفوا عليه ‏{‏وإنّا لنراك فينا ضعيفاً‏}‏ أي وإنّك فينا لضعيف، أي غير ذي قوّة ولا منعة‏.‏ فالمراد الضعف عن المدافعة إذا راموا أذَاهُ وذلك ممّا يُرى لأنّه تُرى دلائله وسماته‏.‏

وذكر فعل الرؤية هنا للتّحقيق، كما تقدّم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما نراك إلاّ بشراً مثلنا وما نراك اتّبعك إلاّ الذين هم أراذلنا‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 27‏]‏ بحيث نزّلوه منزلة من تُظنون أنهم لا يرون ذلك بأبصارهم فصرحوا بفعل الرؤية‏.‏ وأكّدوه بِ ‏(‏إنّ‏)‏ وَلاَم الابتداء مبالغة في تنزيله منزلة من يجهل أنهم يعلمون ذلك فيه، أوْ مَنْ ينكر ذلك‏.‏ وفي هذا التنزيل تعريض بغباوته كما في قول حجل بن نضلة‏:‏

إن بني عمّك فيهم رماح ***

ومن فساد التفاسير تفسير الضعيف بفاقد البصر وأنه لغة حميرية فركبوا منه أنّ شعيباً عليه السّلام كان أعمى، وتطرّقوا من ذلك إلى فرض مسألة جواز العمى على الأنبياء، وهو بناء على أوهام‏.‏ ولم يعرف من الأثر ولا من كتب الأوّلين ما فيه أنّ شعيباً عليه السّلام كان أعمى‏.‏

وعطفوا على هذا قولهم‏:‏ ‏{‏وَلَوْلاَ رهطك لرجمناك‏}‏ وهو المقصود ممّا مُهّد إليه من المقدمات، أي لا يصدّنا عن رجمك شيء إلاّ مكان رهطك فينا، لأنك أوجبت رجمك بطعنك في ديننا‏.‏

والرهط إذا أضيف إلى رجل أريد بِه القرابة الأدنَوْن لأنّهم لا يكونون كثيراً، فأطلقوا عليهم لفظ الرهط الذي أصله الطائفة القليلة من الثلاثة إلى العشرة، ولم يقولوا قومك، لأنّ قومه قد نبذوه‏.‏ وكان رهط شعيب عليه السّلام من خاصة أهل دين قومه فلذلك وقّروهم بكفّ الأذى عن قريبهم لأنهم يكرهون ما يؤذيه لقرابته‏.‏ ولولا ذلك لما نصره رهطه لأنّهم لا ينصرون من سخطه أهل دينهم‏.‏ على أنّ قرابته ما هم إلاّ عددٌ قليل لا يُخشى بأسهم ولكن الإبقاء عليه مجرد كرامة لقرابته لأنّهم من المخلصين لدينهم‏.‏

فالخبر المحذوف بعد ‏{‏لَوْلاَ‏}‏ يُقَدّرُ بما يدلّ على معنى الكرامة بقرينة قولهم‏:‏ ‏{‏وما أنت علينا بعزيز‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏أرهطي أعزّ عليكم من الله‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 92‏]‏، فلمّا نفوا أن يكون عزيزاً وإنما عزة الرجل بحماته تعين أن وجود رهطه المانع من رجمه وجود خاص وهو وجود التكريم والتوقير، فالتقدير‏:‏ ولولا رهطك مكرمون عندنا لرجمناك‏.‏

والرجم‏:‏ القتل بالحجارة رَمْياً، وهو قِتلة حقارة وخزي‏.‏ وفيه دلالة على أن حكم من يخلع دينه الرجم في عوائدهم‏.‏

وجملة ‏{‏وما أنت علينا بعزيز‏}‏ مؤكدة لمضمون ‏{‏ولولا رهطك لرجمناك‏}‏ لأنّه إذا انتفى كونه قويّاً في نفوسهم تعيّن أن كفّهم عن رجمه مع استحقاقه إيّاه في اعتقادهم ما كان إلاّ لأجل إكرامهم رهطَه لا للخوف منهم‏.‏

وإنّما عطفت هذه الجملة على التي قبلها مع أنّ حق الجملة المؤكدة أن تفصل ولا تعطف لأنّها مع إفادتها تأكيد مضمون الّتي قبلها قد أفادت أيضاً حكماً يخصّ المخاطب فكانت بهذا الاعتبار جديرة بأن تعطف على الجمل المفيدة أحواله مثل جملة ‏{‏ما نَفْقَهُ كثيراً ممّا تقول‏}‏ والجمل بعدها‏.‏

والعزة‏:‏ القوم والشدّة والغلبة‏.‏ والعزيز‏:‏ وصف منه، وتعديته بحرف ‏(‏على‏)‏ لما فيه من معنى الشّدة والوقْع على النفس كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏عزيزٌ عليه ما عنتم‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 128‏]‏، أي شديد على نفسه، فمعنى ‏{‏وما أنت علينا بعزيز‏}‏ أنك لا يعجزنا قتلك ولا يشتدّ على نفوسنا، أي لأنّك هَيّنُ علينا ومحقّر عندنا وليس لك من ينصرك منّا‏.‏ وعزة المرء على قبيلة لا تكون غلبةَ ذاته إذْ لاَ يغلب واحد جماعة، وإنما عزّته بقومه وقبيلته، كما قال الأعشى‏:‏

وإنّما العِزّة للكاثِر ***

فمعنى ‏{‏وما أنت علينا بعزيز‏}‏ أنك لا تستطيع غلبتنا‏.‏

وقصدهم من هذا الكلام تحذيره من الاستمرار على مخالفة رهطه بأنّهم يوشك أن يخلعوه ويبيحوا لهم رجمه‏.‏ وهذه معان جدّ دقيقة وإيجاز جدّ بديع‏.‏

وليس تقديم المسند إليه على المسند في قوله‏:‏ ‏{‏وما أنت علينا بعزيز‏}‏ بمفيد تخصيصاً ولا تقوياً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏92‏]‏

‏{‏قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ ‏(‏92‏)‏‏}‏

لمّا أرادوا بالكلام الذي وجّهوه إليه تحذيره من الاستمرار على مخالفة دينهم، أجابهم بما يفيد أنه لم يكن قط معوّلاً على عزة رهطه ولكنّه متوكّل على الله الذي هو أعزّ من كل عزيز، فالمقصود من الخَبَر لازمه وهو أنّه يعلم مضمون هذا الخبر وليس غافلاً عنه، أي لقد علمتُ مَا رهطي أغلب لكم من الله فلا أحتاج إلى أن تعاملوني بأنّي غيرُ عزيز عليكم ولا بأنّ قرابتي فئة قليلة لا تعجزكم لو شئتم رجمي‏.‏

وإعادة النداء للتّنبيه لكلامه وأنه متبصّر فيه‏.‏ والاستفهام إنكاريّ، أي الله أعز من رهطي، وهو كناية عن اعتزازه بالله لا برهطه فلا يريبه عدم عزة رهطه عليهم، وهذا تهديد لهم بأنّ الله ناصره لأنّه أرسله فعزّته بعزّة مُرسله‏.‏

وجملة ‏{‏واتّخذتموه وراءَكم ظِهرياً‏}‏ في موضع الحال من اسم الجلالة، أي الله أعز في حال أنكم نسيتم ذلك‏.‏ والاتّخاذ‏:‏ الجعل، وتقدّم في قوله‏:‏ ‏{‏أتتّخذ أصْناماً آلهةً‏}‏ في سورة ‏[‏الأنعام‏:‏ 74‏]‏‏.‏

والظِهريّ بكسر الظاء نسبة إلى الظهر على غير قياس، والتغييرات في الكلم لأجل النسبة كثيرة‏.‏ والمراد بالظهريّ الكناية عن النسيان، أو الاستعارة لأن الشيء الموضوع بالوراء ينسى لقلة مشاهدته، فهو يشبه الشيء المجعول خلف الظهر في ذلك، فوقَع ‏{‏ظهريّاً‏}‏ حالاً مؤكّدة للظرف في قوله‏:‏ ‏{‏وراءكم‏}‏ إغراقاً في معنى النسيان لأنّهم اشتغلوا بالأصنام عن معرفة الله أو عن ملاحظة صفاته‏.‏

وجملة ‏{‏إنّ ربي بما تعملون محيط‏}‏ استئناف، أو تعليل لمفهوم جملة ‏{‏أرهطي أعز عليكم من الله‏}‏ الذي هو توكله عليه واستنصاره به‏.‏

والمحيط‏:‏ الموصوف بأنه فاعل الإحاطة‏.‏ وأصل الإحاطة‏:‏ حصار شيء شيئاً من جميع جهاته مثل إحاطة الظرف بالمظروف والسور بالبلدة والسِوار بالمعصم‏.‏ وفي «المقامات الحريرية»‏:‏

«وقد أحاطت به أخلاط الزمر، إحاطة الهالة بالقمر، والأكمام بالثمر»‏.‏ ويطلق مجازاً في قولهم‏:‏ أحاط علمه بكذا، وأحاط بكل شيء علماً، بمعنى علم كل ما يتضمّن أن يعلم في ذلك، ثم شاع ذلك فحذف التمييز وأسندت الإحاطة إلى العالم بمعنى‏:‏ إحاطة علمه، أي شمول علمه لجميع ما يعلم في غرض مّا، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وأحاط بما لديهم‏}‏ ‏[‏الجن‏:‏ 28‏]‏ أي علمه‏.‏ ومنه قوله هنا‏:‏ ‏{‏إنّ ربي بما تعملون محيط‏}‏ والمراد إحاطة علمه‏.‏ وهذا تعريض بالتهديد، وأنّ الله يوشك أن يعاقبهم على ما علمه من أعمالهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏93‏]‏

‏{‏وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ ‏(‏93‏)‏‏}‏

عطف نداء على نداء زيادة في التنبيه، والمقصود عطف ما بعد النداء الثاني على ما بعد النداء الأوّل‏.‏

وجملة ‏{‏اعملوا على مكانتكم إني عامل سوف تعلمون‏}‏ تقدّم تفسير نظيرها في سورة الأنعام‏.‏

والأمر للتهديد‏.‏ والمعنى‏:‏ اعملوا متمكّنين من مكانتكم، أي حالكم التي أنتم عليها، أي اعملوا ما تحبّون أن تعملوه بي‏.‏

وجملة ‏{‏إني عامل‏}‏ مستأنفة‏.‏ ولم يقرن حرف ‏{‏سوف‏}‏ في هذه الآية بالفاء وقرن في آية سورة الأنعام بالفاء؛ فجملة ‏{‏سوف تعلمون‏}‏ هنا جعلت مستأنفة استئنافاً بيانيّاً إذ لمّا فاتحهم بالتّهديد كان ذلك ينشئ سؤالاً في نفوسهم عما ينشأ على هذا التّهديد فيجاب بالتهديد ب ‏{‏سوف تعلمون‏}‏‏.‏ ولكونه كذلك كان مساوياً للتفريع بالفاء الواقع في آية الأنعام في المآل، ولكنّه أبلغ في الدّلالة على نشأة مضمون الجملة المستأنفة عن مضمون التي قبلها؛ ففي خطاب شعيب عليه السّلام قومه من الشدة ما ليس في الخطاب المأمور به النبيءُ صلى الله عليه وسلم في سورة الأنعام جرياً على ما أرسل الله به رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم من اللين لهم ‏{‏فبما رحمةٍ من الله لنت لهم‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 159‏]‏‏.‏ وكذلك التفاوت بين معمولي ‏{‏تعلمون‏}‏ فهو هنا غليظ شديد ‏{‏من يأتيه عذاب يخزيه ومن هو كاذب‏}‏ وهو هنالك لين ‏{‏مَن تكون له عاقبة الدّار‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 135‏]‏‏.‏

و ‏{‏من‏}‏ استفهام معلق لفعل العلم عن العمل، أي تعلمون جواب هذا السؤال‏.‏ والعذاب‏:‏ خزي لأنّه إهانة‏.‏

والارتقاب‏:‏ الترقّب، وهو افتعال من رقبه إذا انتظره‏.‏

والرّقيب هنا فعيل بمعنى فاعل، أي أني معكم راقب، أي كل يرتقب ما يجازيه الله به إن كان كاذباً أو مكذّباً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏94- 95‏]‏

‏{‏وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ ‏(‏94‏)‏ كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ ‏(‏95‏)‏‏}‏

عُطف ‏{‏لما جاء أمرنا‏}‏ هنا وفي قوله في قصة عاد ‏{‏ولمّا جاء أمرنا نجينا هوداً‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 59‏]‏ بالواو فيهما وعطف نظيراهما في قصة ثمود ‏{‏فلمّا جاء أمرنا نجينا صالحاً‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 66‏]‏ وفي قصة قوم لوط ‏{‏فلمّا جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 82‏]‏ لأن قصتَيْ ثمود وقوم لوط كان فيهما تعيين أجل العذاب الذي تَوعّدَ به النبيئان قومَهما؛ ففي قصة ثمود ‏{‏فقال تمتّعوا في داركم ثلاثة أيّام ذلك وعْدً غير مكذوبٍ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 65‏]‏، وفي قصة قوم لوط ‏{‏إن موعدهم الصّبح أليس الصّبح بقريب‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 81‏]‏؛ فكان المقام مقتضياً ترقب السّامع لما حل بهم عند ذلك الموعد فكان الموقع للفاء لتفريع ما حلّ بهم على الوعيد به‏.‏ وليس في قصة عاد وقصة مدين تعيين لموعد العذاب ولكنّ الوعيد فيهما مجمل من قوله‏:‏ ‏{‏ويستخلف ربّي قوماً غيركم‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 57‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وارتقبوا إنّي معكم رقيب‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 9‏]‏‏.‏

وتقدم القول في معنى ‏{‏جاء أمرنا‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏ألاَ بُعْداً لمدين‏}‏ في قصة ثمود‏.‏ وتقدم الكلام على ‏{‏بُعْداً‏}‏ في قصة نوح في قوله‏:‏ ‏{‏وقيل بُعداً للقوم الظالمين‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 44‏]‏‏.‏

وأما قوله‏:‏ ‏{‏كما بَعدت ثمود‏}‏ فهو تشبيه البعد الذي هو انقراض مدين بانقراض ثمود‏.‏ ووجه الشبه التّماثل في سبب عقابهم بالاستئصال، وهو عذاب الصيحة، ويجوز أن يكون المقصود من التّشبيه الاستطراد بذمّ ثمود لأنهم كانوا أشدّ جرأة في مناواة رسل الله، فلمّا تهيأ المقام لاختتام الكلام في قصص الأمم البائدة ناسب أن يعاد ذكر أشدّها كفراً وعناداً فَشُبّهَ هلك مدين بهلكهم‏.‏

والاستطراد فَنّ من البديع‏.‏ ومنه قول حسّان في الاستطراد بالهجاء بالحارث أخي أبي جهل‏:‏

إن كنت كاذبة الذي حدثتني *** فنجوت منجَى الحارث بن هشام

ترك الأحبّة أن يقاتل دُونهم *** ونَجا برأس طمرّة ولجام

تفسير الآيات رقم ‏[‏96- 97‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآَيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ ‏(‏96‏)‏ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ ‏(‏97‏)‏‏}‏

عطف قصة على قصة‏.‏ وعقّبت قصة مدين بذكر بعثة موسى عليه السّلام لقرب ما بين زمنيهما، ولشدة الصلة بين النبيئين فإن موسى بعث في حياة شعيب عليهما السّلام وقد تزوّج ابنة شعيب‏.‏

وتأكيد الخبر ب ‏(‏قد‏)‏ مثل تأكيد خبر نوح عليه السّلام في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 25‏]‏‏.‏

والباء في ‏{‏بآياتنا‏}‏ للمصاحبة فإن ظهور الآيات كان مصاحباً لزمن الإرسال إلى فرعون وهو مدّة دعوة موسى عليه السّلام فرعون وملأه‏.‏

والسلطان‏:‏ البرهان المبين، أي المُظهر صدق الجائِي به وهو الحجّة العقليّة أو التأييد الإلهي‏.‏ وقد تقدّم ذكر فرعون ومَلإه في سورة الأعراف‏.‏

وعُقب ذكر إرسال موسى عليه السّلام بذكر اتّباع الملإ أمرَ فرعون لأنّ اتّباعهم أمر فرعون حصل بإثر الإرسال ففهم منه أنّ فرعون أمرهم بتكذيب تلك الرسالة‏.‏

وإظهار اسم فرعون في المرّة الثانية دون الضمير والمرة الثالثة للتّشهير بهم، والإعلان بذمّه وهو انتفاء الرشد عن أمره‏.‏

وجملة ‏{‏وما أمر فرعون برشيد‏}‏ حال من ‏{‏فرعون‏}‏‏.‏

والرشيد‏:‏ فعيل من رشد من باب نصر وفرح، إذا اتّصف بإصابة الصواب‏.‏ يقال‏:‏ أرشدك الله‏.‏ وأجري وصف رشيد على الأمر مجازاً عقلياً‏.‏ وإنّما الرشيد الآمر مبالغة في اشتمال الأمر على ما يقتضي انتفاء الرشد فكأنّ الأمر هو الموصوف بعدم الرشد‏.‏ والمقصود أن أمر فرعون سَفَهٌ إذْ لاَ واسطة بين الرشد والسفه‏.‏ ولكن عدل عن وصف أمره بالسّفيه إلى نفي الرشد عنه تجهيلاً للذين اتبعوا أمرَه لأنّ شأن العقلاء أن يَتطلبوا الاقتداء بما فيه صلاح وأنهم اتبعوا ما ليس فيه أمارة على سداده واستحقاقه لأن يتّبع فماذا غرّهم باتباعه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏98- 99‏]‏

‏{‏يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ ‏(‏98‏)‏ وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ ‏(‏99‏)‏‏}‏

جملة ‏{‏يقدم قومَه‏}‏ يجوز أن تكون في موضع الحال من ‏{‏فرعون‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 97‏]‏ المذكور في الجملة قبلها‏.‏ ويجوز أن تكون استئنافاً بيانياً‏.‏

والإيراد‏:‏ جعل الشيء وارداً، أي قاصداً الماء، والذي يوردهم هو الفارط، ويقال له‏:‏ الفَرَط‏.‏

والوِرد بكسر الواو‏:‏ الماء المورود، وهو فِعْل بمعنى مَفعول، مثل دبْح‏.‏ وفي قوله‏:‏ ‏{‏فأوردهم النار وبئس الورد المورود‏}‏ استعارة الإيراد إلى التقدّم بالناس إلى العذاب، وهي تهكمّية لأن الإيراد يكون لأجل الانتفاع بالسقي وأمّا التقدّم بقومه إلى النار فهو ضد ذلك‏.‏

و ‏{‏يقدُم‏}‏ مضارع قدَم بفتح الدّال بمعنى تقدّم المتعدي إذا كان متقدّماً غيره‏.‏

وإنما جاء ‏{‏فأوردهم‏}‏ بصيغة الماضي للتّنْبِيه على تحقيق وقوع ذلك الإيراد وإلاّ فقرينة قوله‏:‏ ‏{‏يوم القيامة‏}‏ تدلّ على أنّه لم يقع في الماضي‏:‏

وجملة ‏{‏وبئس الورد المورود‏}‏ في موضع الحال والضمير المخصوص بالمدح المحذوف هو الرابط وهو تجريد للاستعارة، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏بئس الشراب‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 29‏]‏، لأن الورد المشبه به لا يكون مذموماً‏.‏

والإتْبَاع‏:‏ الإلحاق‏.‏

واللعنة‏:‏ هي لعنة العذاب في الدّنيا وفي الآخرة‏.‏

و ‏{‏يوم القيامة‏}‏ متعلق ب ‏{‏أتبعوا‏}‏، فعلم أنّهم أتبعوا لعنة يوم القيامة، لأنّ اللّعنة الأولى قيّدت بالمجرور بحرف ‏{‏في‏}‏ الظرفية، فتعيّن أنّ الإتباع في يوم القيامة بلعنة أخرى‏.‏

وجملة ‏{‏بئس الرفد المرفود‏}‏ مستأنفة لإنشاء ذمّ اللّعنة‏.‏ والمخصوص بالذمّ محذوف دل عليه ذكر اللّعنة، أي بئس الرفد هي‏.‏

والرفد بكسر الرّاء اسم على وزن فِعل بمعنى مفعول مثل ذبح، أي ما يرفد به‏.‏ أي يُعطى‏.‏ يقال‏:‏ رفده إذا أعطاه ما يعينه به من مال ونحوه‏.‏

وفي حذف المخصوص بالمدح إيجاز ليكون الذمّ متوجّهاً لإحدى اللّعنتين لا على التعيين لأنّ كلتيهما بَئيس‏.‏

وإطلاق الرّفد على اللّعنة استعارة تهكّمية، كقول عمرو بن معد يكرب‏:‏

تحية بينهم ضرب وجيع ***

والمرفود‏:‏ حقيقته المعطَى شيئاً‏.‏ ووصف الرفد بالمرفود لأنّ كلتا اللّعنتين معْضودة بالأخرى، فشبّهت كل واحدة بمَن أعطي عطاء فهي مرفودة‏.‏ وإنما أجري المرفود على التذكير باعتبار أنّه أطلق عليه رفد‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏100- 101‏]‏

‏{‏ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ ‏(‏100‏)‏ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آَلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ ‏(‏101‏)‏‏}‏

استئناف للتنويه بشأن الأنباء التي مَرّ ذكرُها‏.‏

واسم الإشارة إلى المذكور كلّه من القصص من قصة نوح عليه السلام وما بعدها‏.‏

والأنباء‏:‏ جمع نبأ، وهو الخبر، وتقدّم في سورة الأنعام ‏(‏34‏)‏ في قوله‏:‏ ‏{‏ولقد جاءك من نبأى المرسلين‏.‏ وجملة نقصّه عليك‏}‏ حال من اسم الإشارة‏.‏ وعبّر بالمضارع مع أن القصص مضى لاستحضار حالة هذا القصص البليغ‏.‏

وجملة ‏{‏منها قائم وحصيد‏}‏ معترضة‏.‏ حال من ‏{‏القرى‏}‏‏.‏

و ‏{‏قائم‏}‏ صفة لموصوف محذوف دلّ عليه عطف ‏{‏وحصيد‏}‏، والمعنى‏:‏ منها زَرع قائم وزرع حصيد، وهذا تشبيه بليغ‏.‏

والقائم‏:‏ الرزع المستقل على سُوقه‏.‏ والحصيد‏:‏ الزرع المحصود، فعيل بمعنى مفعول‏.‏ وكلاهما مشبّه به للباقي من القرى والعافي‏.‏ والمرادُ بالقائم ما كان من القرى التي قصّها الله في القرآن قُرى قائماً بعضها كآثار بلد فرعون كالأهرام وبلهوبة ‏(‏وهو المعروف بأبي الهول‏)‏ وهيكل الكرنك بمصر، ومثل آثار نينوى بلد قوم يونس، وأنطاكية قرية المرسلين الثلاثة، وصنعاء بلد قوم تُبّع، وقرى بائدة مثل ديار عاد، وقرى قوم لوط، وقرية مدين‏.‏ وليس المراد القرى المذكورة في هذه السورة خاصة‏.‏ والمقصود من هذه الجملة الأعتبار‏.‏

وضمير الغيبة في ‏{‏ظلمناهم‏}‏ عَائد إلى ‏{‏القرى‏}‏ باعتبار أهلها لأنّهم المقصود‏.‏

وإنّما لم يظلمهم الله تعالى لأنّ ما أصابهم به من العذاب جزاء عن سوء أعمالهم فكانوا هم الظّالمين أنفسَهم إذ جرّوا لأنفسهم العذاب‏.‏

وفرع على ظلمهم أنفسَهم انتفاء إغناء آلهتهم عنهم شيئاً، ووجه ذلك الترتب والتفريع أن ظلمهم أنفسهم مَظهره في عبادتهم الأصنام، وهم لمّا عبدوها كانوا يعبدونها للخلاص من طوارق الحدثان ولتكون لهم شفعاء عند الله وكانوا في أمن من أن ينالهم بأس في الدنيا اعتماداً على دفع أصنامهم عنهم فلمّا جاء أمرهم بضد ذلك كان ذلك الضدّ مضاداً لتأميلهم وتقديرهم‏.‏

والغرض من هذا التفريع التعريض بتحذير المشركين من العرب من الاعتماد على نفع الأصنام، فقد أيقن المشركون أن أولئك الأمم كانوا يعبدون الأصنام كيف وهؤلاء اقتبسوا عبادة الأصنام من الأمم السّابقين وأيقنوا أنهم قد حَلّ بهم من الاستئصال ما شاهدوا آثاره، فذلك موعظة لهم لو كانوا مهتدين‏.‏

وجملة ‏{‏وما زادوهم غير تتبيب‏}‏ عِلاوة وارتقاء على عدم نفعهم عند الحاجة بأنّهم لم يكن شأنهم عدم الإغناء عنهم فحسبُ ولكنهم زادتهم تتبيباً وخسراناً، أي زادتهم أسبابَ الخسران‏.‏

والتتبيب‏:‏ مصدر تبّبه إذا أوقعه في التبَاب وهو الخسارة‏.‏ وظاهر هذا أن أصنامهم زادتهم تتبيباً لمّا جاء أمر الله، لأنّه عطف على الفعل المقيّد ب ‏{‏لمّا‏}‏ التوقيتية المفيدة أنّ ذلك كان في وقت مجيء أمر الله وهو حلول العذاب بهم‏.‏

ووجه زيادتهم إياهم تتبيباً حينئذٍ أنّ تصميمهم على الطمع في إنقاذهم إيّاهم من المصائب حالت دونهم ودون التوبة عند سماع الوعيد بالعذاب‏.‏

ويجوز أن يكون العطف لمجرّد المشاركة في الصفة دون قيدها، أي زادوهم تتبيباً قبل مجيء أمر الله بأنْ زادهم اعتقادهم فيها انصرافاً عن النظر في آيات الرّسل وزادهم تأميلهم الأصنام، وقد كانت خرافات الأصنام ومناقبها الباطلة مغرية لهم بارتكاب الفواحش والضلال وانحطاط الأخلاق وفساد التّفكير جرأة على رسل الله حتى حقّ عليهم غضب الله المستوجب حلول عذابه بهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏102‏]‏

‏{‏وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ ‏(‏102‏)‏‏}‏

الإشارة إلى المذكور من استئصال تلك القرى‏.‏ وهو ما يدل عليه قوله‏:‏ ‏{‏أخذ ربك‏}‏‏.‏ والتقدير‏:‏ وكذلك الأخذ الذي أخذنا به تلك القرى أخذ ربك إذا أخذ القرى‏.‏ والتشبيه في الكيفيّة والعاقبة‏.‏

والمقصود من هذا التّذييل تعريض بتهديد مشركي العرب من أهل مكّة وغيرها‏.‏

والظلم‏:‏ الشرك‏.‏ وجملة ‏{‏إنّ أخذه أليم شديد‏}‏ في موضع البيان لمضمون ‏{‏وكذلك أخذ ربّك‏}‏‏.‏ وفيه إشارة إلى وجه الشّبه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏103- 104‏]‏

‏{‏إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآَخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ ‏(‏103‏)‏ وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ ‏(‏104‏)‏‏}‏

بيان للتعريض وتصريح بعد تلويح‏.‏ والمعنى‏:‏ وكذلك أخذ ربك فاحْذروه وحذروا ما هو أشدّ منه وهو عذاب الآخرة‏.‏ والإشارة إلى الأخذ المتقدّم‏.‏ وفي هذا تخلّص إلى موعظة المسلمين والتّعريض بمدحهم بأن مثلهم من ينتفع بالآيات ويعتبر بالعبر كقوله‏:‏ ‏{‏وما يعقلها إلاّ العالمون‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 43‏]‏‏.‏

وجُعل عذاب الدنيا آية دالة على عذاب الآخرة لأنّ القرى الظالمة توعّدها الله بعذاب الدنيا وعذاب الآخرة كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإنّ للذين ظلموا عذاباً دون ذلك‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 47‏]‏ فلمّا عاينوا عذاب الدّنيا كان تحققه أمارة على تحقق العذاب الآخر‏.‏

وجملة ‏{‏ذلك يوم مجموع له الناس‏}‏ معترضة للتنويه بشأن هذا اليوم حتّى أنّ المتكلّم يبتدئ كلاماً لأجل وصفه‏.‏

والإشارة ب ‏{‏ذلك‏}‏ إلى الآخرة لأنّ ماصدقها يومُ القيامة، فتذكير اسم الإشارة مراعاة لمعنى الآخرة‏.‏

واللاّم في ‏{‏مجموع له‏}‏ لام العلّة، أي مجموع الناس لأجله‏.‏

ومجيء الخبر جملة اسمية في الإخبار عن اليوم يدلّ على معنى الثّبات، أي ثابت جمع الله الناس لأجل ذلك اليوم، فيدلّ على تمكن تعلق الجمع بالنّاس وتمكّن كون ذلك الجمع لأجل اليوم حتّى لقّب ذلك اليوم يومَ الجمع في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يوم يجمعكم ليوم الجمع‏}‏ ‏[‏التغابن‏:‏ 9‏]‏‏.‏

وعطف جملة ‏{‏وذلك يوم مشهود‏}‏ على جملة ‏{‏ذلك يوم مجموع له الناس‏}‏ لزيادة التّهويل لليوم بأنّه يُشهد‏.‏ وطُوي ذكر الفاعل إذ المراد يشهده الشّاهدون، إذ ليس القصد إلى شاهِدين معيّنين‏.‏ والإخبار عنه بهذا يُؤذن بِأنّهم يشهدونه شهوداً خاصاً وهو شهود الشيء المهول، إذ من المعلوم أن لا يقصد الإخبار عنه بمجرّد كونه مرئياً لكن المراد كونه مرئياً رؤية خاصة‏.‏

ويجوز أن يكون المشهود بمعنى المحقّق أيّ مشهود بوقوعه، كما يقال‏:‏ حقّ مشهود، أيْ عليه شهود لا يستطاع إنكاره، واضح للعيان‏.‏

ويجوز أن يكون المشهود بمعنى كثير الشّاهدين إياه لشهرته، كقولهم‏:‏ لفلان مجلس مشهود، كقول أم قيس الضبّيّة‏:‏

ومشهد قد كفيتَ الناطقين به *** في محفل من نواصي الخيل مَشهود

فيكون من نحو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فكيف إذا جئنا من كلّ أمّة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً يومئذٍ يوَدّ الذين كفروا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 41، 42‏]‏ الآية‏.‏

وجملة ‏{‏وما نؤخّره إلاّ لأجل معدود‏}‏ معترضة بين جملة ‏{‏ذلك يوم مجموع له النّاس‏}‏ وبين جملة ‏{‏يوم يأتي لا تكلّم نفس‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 105‏]‏ الخ‏.‏ والمقصود الردّ على المنكرين للبعث مستدلّين بتأخير وقوعه في حين تكذيبهم به يحسبون أنّ تكذيبهم به يغيظ الله تعالى فيعجّله لهم جهلاً منهم بمقام الإلهيّة، فبيّن الله لهم أن تأخيره إلى أجل حدّده الله له من يوم خَلَقَ العالم كما حدّد آجال الأحياء، فيكون هذا كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين قُلْ لكم ميعاد يوممٍ لا تستأخرون عنه ساعةً ولا تستقدمون‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 29، 30‏]‏‏.‏

والأجل‏:‏ أصله المدة المنظَر إليها في أمر، ويطلق أيضاً على نهاية تلك المدّة، وهو المراد هنا بقرينة اللاّم، كما أريد في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإذا جاء أجلهم‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 34‏]‏‏.‏

والمعدود‏:‏ أصله المحسوب، وأطلق هنا كناية عن المعيّن المضبوط بحيث لا يتأخر ولا يتقدم لأنّ المعدود يلزمه التعيّن، أو كناية عن القرب‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏105- 108‏]‏

‏{‏يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ ‏(‏105‏)‏ فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ ‏(‏106‏)‏ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ ‏(‏107‏)‏ وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ ‏(‏108‏)‏‏}‏

جملة ‏{‏يوم يَأتي لا تكلّم نَفْسٌ‏}‏ تفصيل لمدلول جملة ‏{‏ذلك يوم مجموع له النّاس‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 103‏]‏ الآية، وبينت عظمة ذلك اليوم في الشرّ والخير تبعاً لذلك التفصيل‏.‏ فالقصد الأوّل من هذه الجملة هو قوله‏:‏ ‏{‏فمنهم شقيّ وسعيد‏}‏ وما بعده، وأمّا ما قبله فتمهيد له أفصح عن عظمة ذلك اليوم‏.‏ وقد جاء نظم الكلام على تقديم وتأخير اقتضاه وضع الاستطراد بتعظيم هول اليوم في موضع الكلام المتّصل لأنّه أسعد بتناسب أغراض الكلام، والظروف صالحة لاتّصال الكلام كصلاحيّة الحروف العاطفة وأدوات الشرط‏.‏

و ‏{‏يوم‏}‏ من قوله‏:‏ ‏{‏يوم يأتي‏}‏ مستعمل في معنى ‏(‏حين‏)‏ أو ‏(‏ساعة‏)‏، وهو استعمال شائع في الكلام العربيّ في لفظ ‏(‏يوم‏)‏ و‏(‏ليلة‏)‏ توسّعاً بإطلاقهما على جزء من زمانهما إذ لا يخلو الزّمان من أن يقع في نهار أو في ليل فذلك يوم أو ليلة فإذا أطلقا هذا الإطلاق لم يستفد منهما إلاّ معنى ‏(‏حين‏)‏ دون تقدير بمدّة ولا بنهار وَلاَ لَيْللٍ، ألاَ ترى قول النابغة‏:‏

تخيّرن من أنهار يوم حليمة ***

فأضاف ‏(‏أنهار‏)‏ جمع نهار إلى اليوم‏.‏ وروي‏:‏ من أزمان يوم حليمة‏.‏

وقول توبة بن الحُميّر

كأن القلب ليلة قيل‏:‏ يُغدَى *** بليلي الأخيلية أو يراح

أراد ساعة، قيل‏:‏ يُغدى بليلى، ولذلك قال‏:‏ يغدى أو يراح، فلم يراقب ما يناسب لفظ ليلة من الرّواح‏.‏

فقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يوم يأتي‏}‏ معناه حين يأتي‏.‏ وضمير ‏(‏يأتي‏)‏ عائد إلى ‏{‏يوم مشهود‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 103‏]‏ وهو يوم القيامة‏.‏ والمراد بإتيانه وقوعه وحلوله كقوله‏:‏ ‏{‏هل ينظرون إلاّ الساعة أن تأتيهم‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 66‏]‏‏.‏

فقوله‏:‏ ‏{‏يوم يأتي‏}‏ ظرف مُتَعلّق بقوله‏:‏ ‏{‏لا تكلّم نفس إلاّ بإذنه‏}‏‏.‏

وجملة ‏{‏لا تكلم نفس‏}‏ مستأنفة ابتدائية‏.‏ قدّم الظرف على فعلها للغرض المتقدم‏.‏ والتّقدير‏:‏ لا تكلّم نفس حينَ يحلّ اليوم المشهود‏.‏ والضّمير في ‏{‏بإذنه‏}‏ عائد إلى الله تعالى المفهوم من المقام ومن ضمير ‏{‏نؤخّره‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 104‏]‏‏.‏ والمعنى أنّه لا يتكلّم أحد إلاّ بإذن من الله، كقوله‏:‏ ‏{‏يوم يقوم الروح والملائكة صفّاً لا يتكلّمون إلاّ من أذن له الرحمن وقال صواباً‏}‏ ‏[‏النبأ‏:‏ 38‏]‏‏.‏ والمقصود من هذا إبطال اعتقاد أهل الجاهلية أنّ الأصنام لها حقّ الشفاعة عند الله‏.‏

و ‏{‏نفس‏}‏ يَعمّ جميع النفوس لوقوعه في سياق النفي، فشمل النفوس البرة والفاجرة، وشمل كلام الشافع وكلام المجادل عن نفسه‏.‏ وفُصّل عموم النفوس باختلاف أحوالها‏.‏ وهذا التفصيل مفيد تفصيل الناس في قوله‏:‏ ‏{‏مجموع له النّاس‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 103‏]‏، ولكنّه جاء على هذا النسج لأجل ما تخلّل ذلك من شبه الاعتراض بقوله‏:‏ ‏{‏وما نؤخّره إلاّ لأجل معدود‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 104‏]‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏بإذنه‏}‏ وذلك نسيج بديع‏.‏

والشقيّ‏:‏ فعيل صفة مشبهة من شَقِيَ، إذا تلبّس بالشّقاء والشقاوة، أي سوء الحالة وشرّها وما ينافر طبع المتّصف بها‏.‏

والسّعيد‏:‏ ضدّ الشقيّ، وهو المتلبّس بالسّعادة التي هي الأحوال الحسنة الخيّرة الملائمة للمتّصف بها‏.‏

والمعنى‏:‏ فمنهم يومئذٍ من هو في عذاب وشدّة ومنهم من هو في نعمة ورخاء‏.‏

والشّقاوة والسّعادة من المواهي المقولة بالتّشكيك فكلتاهما مراتب كثيرة متفاوتة في قوّة الوصف‏.‏ وهذا إجمال تفصيله ‏{‏فأمّا الذين شقُوا‏}‏ إلى آخره‏.‏

والزّفير‏:‏ إخراج الأنفاس بدفع وشدّة بسبب ضغط التنفّس‏.‏ والشّهيق‏:‏ عكسه وهو اجتلاب الهواء إلى الصّدر بشدّة لقوة الاحتياج إلى التنفس‏.‏

وخص بالذّكر من أحوالهم في جهنّم الزّفير والشّهيق تنفيراً من أسباب المصير إلى النّار لما في ذكر هاتين الحالتين من التّشويه بهم وذلك أخوف لهم من الألم‏.‏

ومعنى ‏{‏ما دامت السّماوات والأرض‏}‏ التأييد لأنّه جرى مجرى المثَل، وإلاّ فإنّ السّماوات والأرض المعرُوفة تضمحلّ يومئذٍ، قال تعالى‏:‏ ‏{‏يوم تبدّل الأرض غير الأرض والسماوات‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 48‏]‏ أو يراد سماوات الآخرة وأرضها‏.‏

و ‏{‏إلاّ ما شاء ربك‏}‏ استثناء من الأزمان التي عمّها الظرف في قوله‏:‏ ‏{‏ما دامت‏}‏ أي إلاّ الأزمان التي شاء الله فيها عدم خلودهم، ويستتبع ذلك استثناء بعض الخالدين تبعاً للأزمان‏.‏ وهذا بناء على غالب إطلاق ‏{‏ما‏}‏ الموصولة أنّها لغير العاقل‏.‏ ويجوز أن يكون استثناء من ضمير ‏{‏خالدين‏}‏ لأنّ ‏{‏ما‏}‏ تطلق على العاقل كثيراً، كقوله‏:‏ ‏{‏ما طاب لكم من النّساء‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 3‏]‏‏.‏ وقد تكرّر هذا الاستثناء في الآية مرّتين‏.‏

فأمّا الأوّل منهما فالمقصود أنّ أهل النّار مراتب في طول المدة فمنهم من يعذّب ثمّ يعفى عنه، مثل أهل المعاصي من الموحّدين، كما جاء في الحديث‏:‏ أنّهم يقال لهم الجهنميون في الجنّة، ومنهم الخالدون وهم المشركون والكفّار‏.‏

وجملة ‏{‏إنّ ربّك فعّال لما يريد‏}‏ استئناف بيانيّ ناشئ عن الاستثناء، لأنّ إجمال المستثنى ينشئ سؤالاً في نفس السّامع أن يقول‏:‏ ما هو تعيين المستثنى أو لماذا لم يكن الخلود عاماً‏.‏ وهذا مظهر من مظاهر التفويض إلى الله‏.‏

وأمّا الاستثناء الثاني الواقع في جانب ‏{‏الذّين سعدوا‏}‏ فيحتمل معنيين‏:‏

أحدهما أن يراد‏:‏ إلاّ ما شاء ربك في أوّل أزمنة القيامة، وهي المدّة التي يدخل فيها عصاة المؤمنين غير التّائبين في العذاب إلى أن يعفو الله عنهم بفضله بدون شفاعة، أو بشفاعة كما في الصّحيح من حديث أنس‏:‏ «يدخل ناسٌ جنّم حتى إذا صاروا كالحُمَمَة أخرجوا وأدخلوا الجنّة فيقال‏:‏ هؤلاء الجهنميون»‏.‏

ويحتمل أن يقصد منه التّحذير من توهّم استحقاق أحد ذلك النعيم حقاً على الله بل هو مظهر من مظاهر الفضل والرّحمة‏.‏

وليس يلزم من الاستثناء المُعلّق على المشيئة وقوع المشيئة بل إنّما يقتضي أنّها لو تعلّقت المشيئة لوقع المستثنى، وقد دلّت الوعود الإلهية على أنّ الله لا يشاء إخراج أهل الجنة منها‏.‏ وأيّاً ما كان فهم إذا أدخلوا الجنّة كانوا خالدين فيها فلا ينقطع عنهم نعيمها‏.‏ وهو معنى قوله‏:‏ ‏{‏عطاء غير مجذوذ‏}‏‏.‏

والمجذوذ‏:‏ المقطوع‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏سَعِدوا‏}‏ بفتح السّين، وقرأه حمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم، وخلف بضم السّين على أنّه مبني للنائب، وإن كان أصل فعله قاصراً لا مفعول له؛ لكنّه على معاملة القاصر معاملة المتعدّي في معنى فُعِل به ما صيّره صاحب ذلك الفعل، كقولهم‏:‏ جُنّ فلان، إذا فُعل به ما صار به ذَا جنون، ف ‏{‏سُعِدوا‏}‏ بمعنى أسعدوا‏.‏ وقيل‏:‏ سَعِد متعدّ في لغة هذيل وتميم، يقولون‏:‏ سَعِدَه اللّهُ بمعنى أسْعَدَهُ‏.‏ وخُرّج أيضاً على أن أصله أسعدوا، فحُذف همز الزيادة كما قالوا مجنُوب ‏(‏بموحدة في آخره‏)‏، ومنه قولهم‏:‏ رجل مَسعود‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏109‏]‏

‏{‏فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آَبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ ‏(‏109‏)‏‏}‏

تفريع على القصص الماضية فإنها تكسب سامعها يقيناً بباطل ما عليه عبدة الأصنام وبخيبة ما أملوه فيهم من الشّفاعة في الدنيا وإن سابق شقائهم في الدنيا بعذاب الاستئصال يُؤذن بسوء حالهم في الآخرة، ففرع على ذلك نهي السامع أن يشك في سوء الشّرك وفساده‏.‏

والخطاب في نحو ‏{‏فلا تك في مرية‏}‏ يقصد به أيُّ سامع لا سامعٌ معيّن سواء كان ممّن يظنّ به أن يشكّ في ذلك أم لا إذ ليس المقصود معيّناً‏.‏

ويجوز أن يكون الخطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم ويكون ‏{‏فلا تك‏}‏ مقصوداً به مجرّد تحقيق الخبر فإنّه جرى مجرى المثل في ذلك في كلام العرب مثل كلمة‏:‏ لا شكّ، ولا محالة، ولا أعرفنّك، ونحوها‏.‏

ويجوز أن يكون تثبيتاً للنبيء صلى الله عليه وسلم على ما يلقاه من قومه من التصلّب في الشرك، أي لا تكن شاكّاً في أنّك لقيت من قومك من التكذيب مثل ما لقيه الرّسل من أممهم فإنّ هؤلاء ما يعبدون إلاّ عبادة كما يعبد آباؤهم من قبل متوارثينها عن أسلافهم من الأمم البائدة‏.‏

و ‏{‏في‏}‏ للظرفية المجازية‏.‏

والمرية بكسر الميم‏:‏ الشكّ‏.‏ وقد جاء فعلها على وزن فَاعَل أو تَفاعل وافتعل‏.‏ ولم يجئ على وزن مجرّد لأنّ أصل المراد المجادلة والمدافعة مستعاراً من مريْتُ الشاة إذا استخرجت لبنها‏.‏ ومنه قولهم‏:‏ لا يجارى ولا يُمارى‏.‏ وفي القرآن ‏{‏أفتمارونه على ما يرى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 12‏]‏‏.‏ وقد تقدّم الامتراء عند قوله‏:‏ ‏{‏ثم أنتم تمترون‏}‏ في أوّل ‏[‏الأنعام‏:‏ 2‏]‏‏.‏

و ‏{‏ما‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏ما يعبد‏}‏ مصدريّة، أي لا تك في شكّ من عبادة هؤلاء، والإشارة بهؤلاء إلى مشركي قريش‏.‏

وقد تتبعتُ اصطلاح القرآن فوجدته عَنَاهُمْ باسم الإشارة هذا في نحو أحد عشر موضعاً وهو ممّا ألهمت إليه ونبّهتُ عليه عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وجئنا بك على هؤلاء شهيداً‏}‏ في سورة ‏[‏النساء‏:‏ 41‏]‏‏.‏

ومعنى الشكّ في عبادتهم ليس إلاّ الشكّ في شأنها، لأنّ عبادتهم معلومة للنبيء صلى الله عليه وسلم فلا وجه لنفي مريته فيها، وإنّما المراد نفي الشك فيما قد يعتريه من الشكّ من أنهم هل يعذّبهم الله في الدنيا أو يتركهم إلى عقاب الآخرة‏.‏

وجملة ‏{‏ما يعبدون إلاّ كما يعبد آباؤهم من قبل‏}‏ مستأنفة، تعليلاً لانتفاء الشكّ في عاقبة أمرهم في الدّنيا‏.‏

ووجه كونه علّة أنّه لمّا كان دينهم عين دين من كان قبلهم من آبائهم وقد بلغكم ما فعل الله بهم عقاباً على دينهم فأنتم توقنون بأنّ جزاءهم سيكون مماثلاً لجزاء أسلافهم، لأنّ حكمة الله تقتضي المساواة في الجزاء على الأعمال المتماثلة‏.‏

والاستثناء بقوله‏:‏ ‏{‏إلاّ كما يعبد‏}‏ استثناء من عموم المصادر‏.‏ وكاف التشبيه نائبة عن مصدر محذوف‏.‏

التّقدير‏:‏ إلاّ عبادة كما يعبد آباؤهم‏.‏

والآباء‏:‏ أطلق على الأسلاف، وهم عاد وثمود‏.‏ وذلك أنّ العرب العدنانيين كانت أمّهم جرهمية، وهي امرأة إسماعيل، وجرهم من إخوة ثمود، وثمود إخوة لعاد، ولأنّ قريشاً كانت أمهم خزاعيّة وهي زوج قصيّ‏.‏ وعبادة الأصنام في العرب أتاهم بها عمرو بن يحيى، وهو جدّ خزاعة‏.‏

وعبّر عن عبادة الآباء بالمضارع للدّلالة على استمرارهم على تلك العبادة، أي إلاّ كما اعتاد آباؤُهم عبادتهم‏.‏ والقرينة على المضي قوله‏:‏ ‏{‏من قبلُ‏}‏، فكأنّه قيل‏:‏ إلاّ كما كان يعبد آباؤهم‏.‏ والمضاف إليه ‏{‏قَبْلُ‏}‏ محذوف تقديره‏:‏ من قبلهم، تنصيصاً على أنّهم سلفهم في هذا الضّلال وعلى أنّهم اقتدوا بهم‏.‏

وجملة ‏{‏وإنّا لموفّوهم نَصيبَهُمْ‏}‏ عطف على جملة التّعليل، والمعطوف هو المعلول، وقد تسلّط عليه معنى كاف التّشبيه لذلك‏.‏ فالمعنى‏:‏ وإنّا لموفوهم نصيبَهم من العذاب كما وفّينا أسلافهم‏.‏

والتوفية‏:‏ إكمال الشيء غير منقوص‏.‏

والنصيب‏:‏ أصله الحظ‏.‏ وقد استعمل ‏(‏موفوهم‏)‏ و‏(‏نصيبَهم‏)‏ هنا استعمالاً تهكّمياً كأنّ لهم عطاء يسألونه فَوُفوه، فوقع قوله ‏{‏غيرَ منقوص‏}‏ حالاً مؤكدة لتحقيق التّوفية زيادة في التهكم، لأنّ من إكرام الموعود بالعطاء أن يؤكد له الوعد، ويسمى ذلك بالبشارة‏.‏

والمراد نصيبهم من عذاب الآخرة، فإنّ الله لم يستأصلهم كما استأصل الأمم السابقة ببركة النبي صلى الله عليه وسلم إذ قال‏:‏ «لعلّ الله أن يخرج من أصلابهم من يعبده»‏.‏